روي عن الحارث بن نبهان أنه قال: كنت أخرج إلى الجبانات فأرحم على أهل القبور وأتفكر وأعتبر وأنظر إليهم سكوتا لا يتكلمون وجيرانا لا يتزاورون وقد صار لهم من بطن الأرض وطاء ومن ظهرها غطاء وأنادي يا أهل القبور محيت من الدنيا آثاركم وما محيت عنكم أوزاركم وسكنتم دار البلاء فتورمت أقدامكم :قال ثم يبكي بكاء شديدا ثم يميل إلى قبة فيها فينام في ظلها.
قال: فبينما أنا نائم إلى جانب القبر إذ أنا بحس مقمعة يضرب بها صاحب القبر وأنا أنظر إليه والسلسلة في عنقه وقد از رقت عيناه واسود وجهه وهو يقول: يا ويلي ماذا حل بي لو رآني أهل الدنيا ما ركبوا معاصي الله أبدا طويت والله باللذات فأوبقتني وبالخطايا فأغرقتني فهل من شافع لي أو مخبر أهلي بأمري؟
قال الحارث : فاستيقظت مرعوبا وكاد أن يخرج قلبي من هول ما رأيت فمضيت إلى داري وبت ليلتي وأنا متفكر فيما رأيت فلما أصبحت قلت دعني أعود إلى الموضع الذي كنت فيه لعلي أجد به أحدا من زوار القبور فأعلمه بالذي رأيت قال فمضيت إلى المكان الذي كنت فيه بالأمس فلم أر أحدا فأخذني النوم فنمت فإذا أنا بصاحب القبر وهو يسحب على وجهه ويقول: يا ويلتاه ماذا حل بي ساء في الدنيا عملي وطال فيها أجلي حتى غضب علي رب الأرباب فالويل لي إن لم يرحمني ربي. قال الحارث : فاستيقظت وقد توله عقلي بما رأيت وسمعت فمشيت إلى داري وبت ليلتي فلما أصبحت أتيت القبر لعلي أجد أحدا من زوار القبور فأعلمه بما رأيت ثم نمت فإذا أنا بصاحب القبر قد قرن بين قدميه وهو يقول: ما أغفل أهل الدنيا عني ضوعف العذاب وتقطعت عنى الحيل والأسباب وغضب علي رب الأرباب وغلق في وجهي كل باب فالويل لي إن لم يرحمني ربي العزيز الوهاب.
قال الحارث فاستيقظت من منامی مرعوبا و هممت بالانصراف فإذا بثلاث جوار قد أقبلن فتباعدت لهن عن القبر وتواريت لكي أسمع كلامهن فتقدمت الصغرى ووقفت على القبر وقالت السلام عليك يا أبتاه كيف هدوؤك في مضجعك وكيف قرارك في موضعك ذهبت عنا بودك وانقطع عنا سؤالك فما أشد حسرتنا عليك ثم بكت بكاء شديدا ثم تقدمت ابنتان فسلمتا على القبر ثم قالتا: هذا قبر أبينا الشفيق علينا والرحيم بنا آنسك الله بملائكة رحمته وصرف عنك عذابه ونقمته يا أبتاه جرت بعدك أمور لو عاينتها لأوهمتك ولو اطلعت عليها لأحزنتك كشف الرجال وجوهنا وقد كنت أنت سترها.
قال الحارث فبكيت لما سمعت كلامهن ثم قمت مسرعا إليهن فسلمت عليهن وقلت لهن أيتها الجواري إن الأعمال ربما قبلت وربما ردت على صاحبها فما كان عمل أبيكن المخلد في هذا القبر الذي عاينت من أمره ما أحزنني واطلعت من حاله على ما آلمني؟.
قال الحارث: فلما سمعن كلامي كشفن وجوههن وقلن أيها العبد الصالح وما الذي رأيت؟ قلت لهن لي ثلاثة أيام وأنا أختلف إلى هذا القبر أسمع صوت المقمعة والسلسلة فيه قال: فلما سمعن ذلك مني قلن :لي بشارة ما أضرها ومصيبة ما أحزنها نحن نقضي الأوطار ونعمر الديار وأبونا يحرق بالنار فو الله لا قر بنا قرار ولا ضمتنا للذة العيش دار أو نتضرع للجبار فلعله أن يعتق أبانا وينقذه من النار ثم مضين يتعثرن في أذيالهن.
قال الحارث: فمضيت إلى داري فبت ليلتي فلما أصبحت أتيت القبر فجلست عنده فغلبني النوم فنمت فإذا أنا بصاحب القبر له حسن وجمال وفي رجليه نعل من ذهب ومعه حور و غلمان.
قال الحارث فسلمت عليه وقلت له: رحمك الله من أنت؟ قال: أنا الرجل الذي : عاينت من أمري ما أحزنك واطلعت منه على ما أفجعك فجزاك الله خيرا فما أيمن طلعتك علي فقلت له: وكيف حالك؟ فقال لي لما اطلعت علي وأخبرت بناتي بالأمس بحالي أعرين أبدانهن وأسبلن شعورهن وتضرعن لمولاهن ومرغن خدودهن في التراب وأهملن دموعهن بالانسكاب واستوهبوني من العزيز الوهاب فغفر لي الذنوب والأوزار واستنقذني من النار وأسكنني دار القرار بجوار محمد المختار . فإذا رأيت بناتي فأعلمهن بأمري وما كان من قصتي ليزول عنهن روعهن ويفارقهن حزنهن وتعلمهن أني قد صرت إلى جنات وحور ومسك وكافور وعندي غلمان وسرور وقد عفا عني العزيز الغفور
قال الحارث : فاستيقظت فرحا مسرورا لما رأيت وسمعت ثم مضيت إلى داري وبت ليلتي فلما أصبحت أتيت القبر فوجدتهن حافيات الأقدام فسلمت عليهن وقلت لهن أبشرن فقد رأيت أباكن في خير عظيم وملك مقيم وقد أعلمني أن الله تعالى أجاب دعاء كن ولم يخيب مسعاكن وقد وهب لكن أباكن فاشكرنه على ما أولاكن.
قال: فقالت الصغرى: اللهم يا مؤنس القلوب ويا ساتر العيوب ويا كاشف الكروب ويا غافر الذنوب ويا عالم الغيوب ويا مبلغ الأمل المطلوب قد علمت ما كان من مسألتي ورغبتي واعتذاري في خلوتي واستقالتي من ذلتي وتنصلي من خطيئتي وأنت اللهم تعلم همتي والمطلع على نيتي والعالم بطويتي ومالك رقبتي والآخذ بناصيتي وغايتي في طلبتي ورجائي عند شدتي ومؤنسي في وحدتي وراحم عبرتي ومقيل عثرتي ومجيب دعوتي فإن كنت قصرت عما أمرتني وركبت إلى ما عنه نهيتني فبحلمك حملتني وبسترك سترتني فبأي لسان أذكرك وعلى أي نعمك أشكرك ضاق بكثرتها ذرعي فيا أكرم الأكرمين ومنتهى غاية الطالبين ومالك يوم الدين الذي يعلم ما أخفي في الضمير ويدبر أمر الصغير والكبير فإن كنت قضيت الحاجة بفضلك وشفعتني في عبدك فاقبضني إليك وأنت على كل شيء قدير ثم صرخت صرخة فارقت الدنيا رحمة الله عليها.
قال: ثم قامت الثانية فنادت بأعلى صوتها يا رب فرج كربي وخلص من الشك قلبي يا من أقامني من صرعتي وأقالني من عثرتي ودلني من حيرتي وأعانني في شدتي إن كنت قبلت دعوتي وقضيت حاجتي وأنجحت طلبتي فألحقني بأختي ثم صاحت صيحة فارقت الدنيا رحمة الله عليها.
قال: ثم قامت الثالثة فنادت بأعلى صوتها يا أيها الجبار الأعظم والملك الأكرم العالم بمن سكت وتكلم لك الفضل العظيم والملك القديم والوجه الكريم العزيز من أعززته أذللته والشريف من شرفته والسعيد من أسعدته والشقي من أشقيته والقريب والذليل من من أدنيته والبعيد من أبعدته والمحروم من حرمته والرابح من أو هبته والخاسر من عذبته. أسألك باسمك العظيم ووجهك الكريم وعلمك المكنون الذي بعد عن إدراك الأفهام وغمض عن مناولة الأوهام باسمك الذي جعلته على الليل فدجى وعلى النهار فأضاء وعلى الجبال فدكدكت وعلى الرياح فتناثرت وعلى السموات فارتفعت وعلى الأصوات فخشعت وعلى الملائكة فسجدت.
اللهم إني أسألك إن كنت قضيت حاجتي وأنجحت طلبتي فألحقني بصواحباتي ثم صاحت صيحة فارقت الدنيا رحمة الله علينا وعليهم وعلى جميع المسلمين أجمعين آخر الحكاية
والحمد لله رب العالمين.